المقدمة
غاب قانون المناقصات القديم، وبقيت “شياطينه” حاضرة في قانون الشراء العام الجديد. فبدلاً من إخضاع كل من يصرف من المال العام للرقابة، جرى استخدام تعريف فضفاض لبعض المرافق يسمح باعتبار قانون الشراء العام لا ينطبق عليها. وتشمل هذه المرافق الشركات التي تملك فيها الدولة وتعمل في بيئة احتكارية والمرافق العامة التي تديرها شركات خاصة لصالح الدولة مثل شركات الاتصالات الخلوية. وقد تم كذلك استعمال التعريف الفضفاض للمرافق العامة التي تملك فيها الدولة حصصاً معينة مثل الكازينو أو شركة طيران الشرق الأوسط أو مؤسسة إنترا التي تعود ملكيتها إلى مصرف لبنان وغير ذلك.
وبغض النظر عما إذا كان المشرّع قد تقصد صياغة بعض البنود بطريقة ملتبسة تسمح بـ “نفاذ” بعض الجهات العامة “بريشها” من الخضوع للشراء العام أو ما إذا كان الاستثناء مرّ عَرَضاً في متن النص، فهو يضرب بمبدأ “الشمولية” الذي بني عليه القانون عرض الحائط. وهو بالتالي يحيّد الكثير من المناقصات عن الرقابة الجدية وإلزامية وضع دفتر شروط عادل بما يضمن تشجيع مشاركة الشركات الصغيرة والمتوسطة وتحفيز الاقتصاد ومنع الاحتكار. ويدفع ذلك بالتالي إلى الغرق مرة جديدة في أعماق بحر “المحاباة” عند إبرام العقود والصفقات وإلى تفويت مداخيل وفيرة على الخزينة هي في أمس الحاجة إليها.
وعليه، تقترح هذه الورقة تعديل القانون منعاً لأي التباس في النص أو إمكانية استغلاله بشكل ملتوٍ ووضع معيار واضح لإخضاع كل الشركات والمؤسسات والهيئات والصناديق لقانون الشراء العام بناءً على الارتباط المالي بالموازنة العامة. ويأتي ذلك بالنظر لاستحالة ذكر كل الشركات الحالية وتلك التي قد تُنشأ مستقبلا بالاسم.
“الشراء العام” يقارب الشمولية بعبارات غير واضحة
باختصار، زادت المادة الثالثة من قانون الشراء العام الفقرة الثالثة من المادة الثانية غموضا على غموضها. كما أن القانون قاصر في صياغته الحالية عن إخضاع الشركات الخاصة الواجب إخضاعها عملا بقاعدة الشمولية لأحكام قانون الشراء العام. ومرّةً أخرى، يكمن الحل في تعديل هذا القانون.
الشمولية
تشمل أحكام قانون الشراء العام كل الجهات الشارية. ويشمل المبدأ كلّ أنواع المشتريات العامة من تنفيذ أشغال وتوريد لوازم وتقديم خدمات بما فيها الخدمات الاستشارية بما لا يُخالف أحكام المعاهدات والاتفاقيات الدولية المبرمة أصولاً من قبل الدولة اللبنانية في حال التمويل الأجنبي. وقد ورد ذلك في الأسباب الموجبة؛ وسندا إليه، يمكن اعتبار سمة (أو صفة أو قاعدة) الشمولية تنطوي على عاملين:
- الأول: شمول أحكام قانون الشراء العام كل الجهات الشارية.
- الثاني: شمول أحكام قانون الشراء العام كل عمليات الشراء للوازم أو الأشغال أو الخدمات التي تقوم بها هذه الجهات الشارية لأحكام قانون الشراء العام.
فلنغص إذاً في تحديد الجهات الشارية من قبل المشرع في الفقرة الثالثة من المادة الثانية من قانون الشراء العام ومدى استجابة هذا التعريف لمعيار الشمولية. ولكن قبل ذلك، تجدر الإشارة إلى أن المشرع اللبناني لم يعرّف معيار الشمولية بدقة ووضوح لا في الأسباب الموجبة لقانون الشراء العام ولا في نصوص هذا القانون. وقد اكتفى المشرع بالقول في الأسباب الموجبة إن أحكام القانون تشمل كل الجهات الشارية وكل شخص من أشخاص القانون العام ينفق مالا عاما بتمويل محلي أو أجنبي وبما لا يخالف المعاهدات والاتفاقيات الدولية المبرمة أصولا من قبل الدولة اللبنانية.
ما يقتضي معه، أولا: تعريف المال العام.
المال العام
بالعودة إلى تعريف المال العام وفقا لأحكام قانون الشراء العام، نجد أنه “المال الذي تملكه أو تتصرف به الجهات الشارية أو غيرها من أشخاص القانون العام أو من تنطبق عليهم أحكام هذا القانون، وكذلك الأموال المودعة في الخزينة، وذلك سواء كان مصدرها إيرادات الموازنة أو القروض أو الهبات”.
نستنتج من التعريف أعلاه:
- أن أموال الجهات الشارية هي أموال عمومية ما لم تُعْطَ صفة مخالفة بنص خاص صريح.
- أن أموال أشخاص القانون العام هي أموال عمومية.
- أن أموال الشركات الخاصة المعتبرة جهات شارية بمقتضى الفقرة الثالثة من المادة الثانية من قانون الشراء العام هي أموال عمومية بحكم النص القانوني: نذكر على سبيل المثال أموال شركتي الهاتف الخليوي وهما تديران مرافق عامة لحساب الدولة اللبنانية. وكذلك تندرج من ضمن الأمثلة أموال شركة كازينو لبنان التي تعمل في بيئة احتكارية وتملك فيها الدولة اللبنانية عبر شركة إنترا التي يملكها مصرف لبنان حصة الأسد.
- أن أموال مصرف لبنان هي أموال عمومية لانطباق أحكام هذا القانون عليه (الفقرة السادسة من المادة الثالثة من قانون الشراء العام).
- أن الأموال المودعة في الخزينة هي أموال عمومية سواء كان مصدرها إيرادات الموازنة أو القروض أو الهبات.
وفي المقابل، عرّف قانون المحاسبة العمومية الأموال العمومية على أنها أموال الدولة والبلديات والمؤسسات العامة التابعة للدولة أو البلديات، وأموال سائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العمومية (المادة الثانية من مشروع القانون الصادر بالمرسوم ١٤٩٦٩ تاريخ ٣٠-١٢-١٩٦٣).
إلا أن معيار المال العام غير كاف لارتباطه تعريفا بمعيار آخر هو معيار توفر صفة الجهة الشارية باعتباره المال الذي تملكه هذه الجهة. فمن هي الجهات الشارية؟
الجهات الشارية
عرّف قانون الشراء العام في الفقرة الثالثة من المادة الثانية منه الجهة الشارية أو سلطة التعاقد.
وبالاستناد إلى هذا التعريف، فالجهات الشارية هي:
- الدولة وإداراتها ومؤسساتها العامة.
- الهيئات الإدارية المستقلة.
- المحاكم التي لديها موازنات خاصة بها.
- الهيئات والمجالس والصناديق.
- البلديات واتحاداتها.
- الأجهزة الأمنية والعسكرية والمؤسسات والإدارات والوحدات التابعة لها.
- البعثات الدبلوماسية في الخارج.
- الهيئات الناظمة.
- الشركات التي تملك فيها الدولة قسماً كبيراً وتعمل في بيئة احتكارية.
- المرافق العامة التي تديرها شركات خاصة لصالح الدولة.
- أيّ شخص من أشخاص القانون العام يُنفق مالاً عاماً.
وإذا كان هذا التعريف لا يثير مشكلة بالنسبة للجهات الواردة فيه بالاسم (الدولة وإداراتها ومؤسساتها العامة – البلديات واتحاداتها – البعثات الدبلوماسية في الخارج – الأجهزة الأمنية والعسكرية والمؤسسات والإدارات والوحدات التابعة لها…). وإذا لم يكن أيضاً يثير أية مشكلة لدى الجهة الواردة فيه بالصفة الواضحة (الهيئات الناظمة – الهيئات الإدارية المستقلة…)، فهو يثير مشكلة عدم دقة وغياب الوضوح وفتح مجال التأويل والتفسير بالنسبة إلى:
- الشركات التي تملك فيها الدولة قسماً كبيراً وتعمل في بيئة احتكارية.
- المرافق العامة التي تديرها شركات خاصة لصالح الدولة.
ولا تملك الدولة حصصاً بشكل مباشر في أي شركة، وإنما يكون ذلك من خلال مصرف لبنان. وإذا تم تفسير هذا النص على أن المقصود به ملكية مباشرة للدولة في الشركات، فهو يتحول إلى نص ميت؛ ولن تخضع بموجبه شركة خاصة واحدة لقانون الشراء العام وإن استنزفت مال الموازنة العامة بكامله. ويرتبط موضوع البيئة الاحتكارية بتعريف قانون المنافسة للاحتكار الذي يربطه بمسيطر واحد. إلا أن السوق يُتقاسَم بين عدد من المسيطرين، وهو أمر أكثر إيلاما من المسيطر الواحد وينعكس ارتفاعا خياليا للأسعار لتأمين حصص أطراف السيطرة. ولا يقلّ فخّ المرافق العامة خطورة عن فخ الاحتكار. فالموضوع بالنسبة لنشاط الكازينو مثلا يتأرجح فيه الاجتهاد، وموضوع مرفق الطيران الجوي العالمي بغالبه لا تنطبق عليه صفة المرفق العام.
وفي المحصلة، يمكننا القول إننا أمام حشو كلام لا جدوى منه. ويتمثّل المطلوب في إخضاع نشاط كل شركة على صلة بالموازنة العامة لناحية تمويلها أو التمويل منها لأحكام قانون الشراء العام عندما تقوم بعملية شراء لوازم أو أشغال أو خدمات. ويكون ذلك لتحقيق القيمة مقابل المال والحفاظ على المال العام على الأقل بمفهومه المرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بموازنة الدولة. ولا بد هنا من تعديل المادة الثانية – الفقرة الثالثة لناحيتين:
الأولى: تعداد الشركات الخاصة الخاضعة لأحكام قانون الشراء العام بالاسم.
الثانية: وضع معيار واضح (لاستحالة ذكر كل الشركات بالاسم) يقوم على أساس الارتباط المالي بالموازنة العامة بينما يكون ما ذكر من الشركات على سبيل التعداد.
ولعل الارتباط بالموازنة العامة هو الفكرة التي حاول المشرع أن يقاربها في المادة الثالثة من نطاق التطبيق. فماذا جاء في هذه المادة؟
المادة الثالثة من قانون الشراء العام (نطاق التطبيق)
أخضعت المادة الثالثة من قانون الشراء العام (نطاق التطبيق)، في فقرتها الأولى، لأحكام هذا القانون جميع عمليات الشراء (من لوازم وأشغال وخدمات) التي تقوم بها الجهات الشارية، سواء كان تمويل العقد من أموال الموازنة أو الخزينة أو من قروض داخلية أو خارجية أو هبات غير مقيدة بشروط الواهب، مع مراعاة أحكام المعاهدات والاتفاقيات الدولية المبرمة مع الدولة اللبنانية. ولا يجوز لأي جهة شارية في غير الحالات المنصوص عليها في هذا القانون القيام بأي عملية شراء إلا طبقا لأحكامه.
ونحن نرى أن نقطة الارتكاز هي الموازنة العامة لأن عمليات الإنفاق تمر أصلا من خلالها، فلا تعقد نفقة إلا إذا توفر لها اعتماد في الموازنة. كما نرى بضرورة أن تمرّ القروض والهبات التي تنفق على مشاريع شراء في مرحلة إنفاقها بالموازنة العامة انطلاقا من مبدأ شموليتها المكرس في الدستور اللبناني.
وقد نصت الفقرة الرابعة من المادة الثالثة (نطاق التطبيق) من قانون الشراء العام على أنه يستثنى من أحكام هذا القانون الشراء الذي يهدف إلى منح أي التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروات البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة أو أي احتكار، إلا فيما يتعلق بالإجراءات التي تسبق منح الامتياز أو الاحتكار، حيث تخضع تلك الإجراءات إلى المبادئ العامة المنصوص عليها في المادة الأولى من هذا القانون فيما لا يتعارض مع أي نصوص خاصة واردة في قوانين أخرى.
ويتصف هذا النص برداءة واضحة في الصياغة. فالشراء الذي يهدف إلى منح أي التزام أو امتياز إنما يتعلق بالإجراءات التي تسبق منح الامتياز أو الاحتكار. وإذا ما علمنا أن الامتياز أو الاحتكار يعطى بقانون، نقول وبكل بساطة أن تُطَبَّق أحكام قانون الشراء العام إلا في ما ورد بشأنه نص خاص في قانون منح الامتياز أو الاحتكار. وغني عن القول إن هذا النص لا يعني الامتياز الذي يبقى خاضعا في نشاطه لأحكام المادتين الثانية والثالثة من قانون الشراء العام.
وباختصار، فقد زادت المادة الثالثة من قانون الشراء العام الفقرة الثالثة من المادة الثانية غموضا على غموضها. كما أن القانون قاصر في صياغته الحالية عن إخضاع الشركات الخاصة الواجب إخضاعها عملا بقاعدة الشمولية لأحكام قانون الشراء العام. لذا، يكمن الحل في تعديل هذا القانون.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق