في لبنان، ثمة ما يدعو للتساؤل على الدوام إن في طرائق تلزيم الصفقات العمومية وإن في عمليات التنفيذ. فعندما أعلن مجلس الإنماء والإعمار مثلاً عن حاجته لتلزيم مؤازرة فنيّة بطريقة طلب “عروض أسعار”، وكان موعد فض العروض نهار الأربعاء في 3/4/2024، لم تُلحظ أي قيمة تقديرية للمشروع، ولم يُذكر في الإعلان أنها سريّة، بل استعيض عن أي عبارة برمز الشَّرطة (-). ثم لُحِظ في خانة “طريقة التلزيم” أنها مناقصة عمومية محصورة بلائحة مصغّرة على أساس تقييم تقني ومالي. فإذا كان التلزيم محصوراً أصلاً، فما الجدوى من الإعلان إلا تماشياً مع التفاصيل المتوارثة؟
أما لدى وزارة التربية، فاختلف الأمر مع صفقة تلزيم “تصميم وتوريد وتركيب وتشغيل نظام طاقة شمسية لمبنى وزارة التربية والتعليم العالي”. إذ ذكر الإعلان في خانة القيمة التقديرية للمشروع عبارة: “تم وضع قيمة تقديرية للمشروع”. كما كُتِب في خانة إرساء التلزيم: “السعر الأدنى”.
وتُرفع القبّعة حتى هذه اللحظة احتراماً لكل ما ورد وتطابق مع قانون الشراء العام. لكن لا بُدّ من أن نأمل أن تتوافق القيمة التقديرية “غير المعلنة” مع حقيقة سعر السوق بالنسبة للسلعة المشتراة، وذلك لكون القانون الجديد قد حرَّر الصفقات العمومية من الضوابط التي تفرضها القيمة التقديرية لإرساء مبدأ الشفافية.
مما لا شك فيه أن للقيمة المقدّرة لمشروع الشراء أهمية قصوى. فهي تسمح أولا للجهة الشارية بالربط المالي بين القيمة التي تدفعها واعتمادات الموازنة أو أي موارد مالية أخرى متاحة، فلا تعقد نفقة إلا إذا توفر لها اعتماد في الموازنة، ولا يستعمل الاعتماد لغير الغاية التي رُصد من أجلها وفقا لأحكام المادة ٥٧ من قانون المحاسبة العمومية.
كما تُعتبَر القيمة التقديرية لمشروع الشراء معيارا موثوقا لمقاربة العروض المالية المقدمة من كل عارض قبل مقارنتها لاختيار العرض الأفضل أو العرض الأدنى سعرا بما يسمح بتحديد عناصر العروض ذات الأسعار المرتفعة او المنخفضة عن هذه القيمة بشكل غير اعتيادي وتحليلها. وعندئذ، تتمكن الجهات الشارية كما هيئة الشراء العام من تدقيق موثوق للأسعار المقدمة متى وُضِعت القيمة التقديرية لمشروع الشراء بشكل علمي وموضوعي ونتيجة دراسة للسوق.
وفيما يلي نستذكر بالتفصيل كل ما ورد ولم يورد في قانون الشراء العام فيما خص القيمة التقديرية لعمليات الشراء.
القيمة التقديرية ودورها في الإضاءة على التواطؤ
كذلك تلعب القيمة التقديرية دورا في الإضاءة على التواطؤ بين العارضين أو بينهم وبين الإدارة. فالتلاعب بالقيمة التقديرية يسهل على الإدارة تجزئة الصفقات وتمريرها من دون إجراءات رقابية مشددة فتفيد من تشاء من العارضين. كما قد يُكشَف السعر التقديري لبعض العارضين أو أحدهم فيقدم أو يقدمون عروضا بأسعار قريبة جداً منه. ولربما كان ذلك هو الدافع وراء إلغاء السعر التقديري بموجب القانون رقم 16 تاريخ ٠٢-٠٨-١٩٧٨(قانون موازنة العام ١٩٧٨). فقد ألغى هذا القانون المادة 129 والفقرة الأخيرة من المادة 131 من قانون المحاسبة العمومية، والمرسوم رقم 6232/1966، وذلك بموجب المادة 26 منه التي نصَّت على أن تُلغى جميع النصوص القانونيَّة والتنظيميَّة المتعلّقة بالسعر التقديري. وقد طال هذا الإلغاء المادة ٣٩ من نظام المناقصات الصادر بالمرسوم التنظيمي رقم ٢٨٦٦/٥٩ والتي كانت تنص على ما يلي: “إذا لم يتقدم للمناقصة سوى عارض واحد، فلا يؤخذ بعرضه إلا إذا كان السعر المعروض ينقص على الأقل عشرة بالمئة عن السعر التقديري”. وتجدر الإشارة إلى أن المادة ٣٨ من نظام المناقصات كانت قد نصت على ما يلي: “يعتبر السعر التقديري الموضوع للصفقة حدا أعلى للأسعار التي يمكن للجنة الأخذ بها، ولا يجوز وضع سعر تقديري كحد أدنى للصفقة”.
ويُستخلَص مما تقدم أن التشريع القديم قد أطاح بالسعر التقديري وضوابطه في الوقت نفسه، محولا الصفقات العمومية إلى ما يشبه لعبة “الغميضة” حيث تكون عيون الإدارة مغمضة على الدوام.
قانون الشراء العام يُحْيي السعرَ الّتقديريّ، ولكن دون ضوابط
خطا قانون الشراء العام خطوة ناقصة إلى الأمام محاولا إحياء السعر التقديري، ولكن من دون ضوابطه. فقد نص في المادة ١٣ منه تحت عنوان “القيمة التقديرية لمشروع الشراء” على ما يلي:
“يجب على كل جهة شارية تحديث تقديراتها لقيمة مشروع الشراء قبل الإعلان عنه إلا في الحالات الاستثنائية التي يتعذَّر فيها ذلك، على أن تُبيِّن الأسباب بشكل معلَّل وواضح.”
1. تُعِدّ الجهة الشارية القيمة التقديرية لمشروع الشراء استناداً إلى أسعار السوق الواقعية وتَقصّي الأسعار لدى الإدارات الأخرى، وبعد الأخذ بالاعتبار كل زيادة يمكن أن تَنتُج عن تطبيق البنود الاختيارية الملحوظة في دفتر الشروط (على سبيل المثال زيادة في الكميات، الحوافز، إلخ…).
2. في ما يتعلّق باتفاقات الإطار، تؤخذ بالاعتبار القيمة التقديرية القصوى لمجمل العقود المتوقّعة طوال فترة الاتفاق.
3. عند إجراء الشراء على أساس مجموعات، يتمّ احتساب القيمة التقديرية لكافة المجموعات التي يتألف منها الالتزام.
4. يجب أن تكون قيمة مشروع الشراء التقديرية محدَّدة لدى الجهة الشارية عند الإعلان عنها أو عند البدء بإجراءات التلزيم.
5. يُحظَر على الجهة الشارية احتساب قيمة مشروع الشراء التقديرية بأقل أو أكثر من قيمته الفعلية بهدف تفادي تطبيق أحكام القانون.
6. عند احتساب القيمة التقديرية لمشروع الشراء يجب الأخذ بالاعتبار كافة العناصر اللازمة لتنفيذها.
7. يجب أن تبقى القيمة التقديرية لمشروع الشراء سرّية قبل التلزيم وبعده، إلا إذا رأت الجهة الشارية عكس ذلك لغايات تتعلَّق بالمنافسة والحرص على نجاح التلزيم، أو في الصفقات المعلومة أسعارها بشكل جليّ وواضح، وعندها يُعلَن عن القيمة التقديرية وفق الأصول. في جميع الأحوال لا يُحتَجّ بالسرية أمام ديوان المحاسبة والهيئات الرقابية”.
وتبرز أهمية تحديد القيمة التقديرية لمشروع الشراء بشكل خاص في حالتين هما حالة العروض المنخفضة بشكل غير اعتيادي أو غير مألوف وحالة العرض الوحيد المقبول كما في حالة تجزئة عمليات الشراء.
أهمية القيمة التقديرية لمشروع الشراء في حالة العروض المنخفضة الأسعار انخفاضاً غير عادي.
نصت المادة ٢٧ من قانون الشراء العام، تحت عنوان “قواعد بشأن العروض المنخفضة الأسعار انخفاضاً غير عادي”، على ما يلي:
1. “يجوز للجهة الشارية أن ترفض أيَّ عرض إذا قرَّرَت أنَّ السعر، مُقترناً بسائر العناصر المكوِّنة لذلك العرض المقدَّم، مُنخفض انخفاضاً غير عاديّ قياساً إلى موضوع الشراء وقيمته التقديرية، وأنه يثير الشك لديها بشأن قدرة العارض على تنفيذ العقد، وذلك شرط أن تكون الجهة الشارية قد طلبت من العارض المعني خطياً تفاصيلَ العرض المقدَّم بشكل يسمح لها بتحليل المعلومات التفصيلية واستنتاج ما إذا كان العارِض سيكون قادراً على تنفيذ عقد الشراء بالسعر المقدَّم. من التفاصيل التي يمكن أن تطلبها الجهة الشارية، على سبيل المثال لا الحصر:
أ- معلومات وعيِّنات أو ما يُشابهها، تُثبت جودة موضوع الشراء المقدَّم في العرض؛
ب- طُرق التصنيع ذات الصلة؛
ج- الحلول التقنية المختارة و/أو أيّ شروط مُؤاتية بشكل استثنائي مُتاحة للعارِض لتنفيذ العقد موضوع الشراء.
2. يُدرَجُ في تقرير التقييم قرارُ الجهة الشارية بِرَفض عرض ما وفقاً لأحكام هذه المادة، وأسبابُ ذلك القرار وكلُّ الإيضاحات التي جرت مع العارضين. ويُبلَّغ العارض المعني، على الفور، بقرار الجهة الشارية وأسبابه”.
وكلما كانت القيمة التقديرية لموضوع الشراء محددة بدقة تفادينا مخاطر الانزلاق إلى رفض عرض قد يكون هو الأفضل بذريعة أن أسعاره منخفضة بشكل غير اعتيادي.
أهمية القيمة التقديرية لمشروع الشراء لتقرير التعاقد مع مقدِّم العرض الوحيد المقبول
نصت المادة ٢٥ (الفقرة الرابعة) من قانون الشراء العام على ما يلي:
1. تُلغي الجهة الشارية الشراء و/أو أيّ من إجراءاته في حالة العرض الوحيد المقبول، غير أنه يحقّ لها اتّخاذ قرار معلَّل بالتعاقد مع مقدِّم العرض الوحيد المقبول إذا توافرت الشروط التالية مجتمعة:
أ- أن تكون مبادئ وأحكام هذا القانون مُطبَّقة وأن لا يكون العرض الوحيد ناتجاً عن شروط حصرية تَضمَّنَها دفتر الشروط الخاص بمشروع الشراء؛
ب- أن تكون الحاجة أساسية ومُلِحّة والسعر مُنسَجِماً مع دراسة القيمة التقديرية؛
أن يتضمَّن نَشر قرار الجهة الشارية بقبول العرض الفائز (التلزيم المؤقت) نصّاً صريحاً بِتقدُّم العارض الوحيد المقبول ونيّة التعاقُد معه.
وكلما كانت القيمة التقديرية محددة بدقة وكلما كانت مقاربة سعر العرض الوحيد المقبول متجانسة معه، تفادينا الانزلاق إلى التعاقد مع مقدم العرض الوحيد بشكل مصطنع لتحقيق غايات خاصة.
أهمية القيمة التقديرية لمشروع الشراء لتفادي التجزئة
نصت المادة ١٤ من قانون الشراء تحت عنوان “تجزئة الشراء” على ما يلي:
1. “يجوز للجهة الشارية تجزئة الشراء إلى أجزاء مستقلة في الحالتين التاليتين فقط:
أ- عندما تتطلَّب ذلك طبيعة الأعمال أو السلع أو الخدمات، ووجود مبرِّرات واضحة كتنوّع مصادر التوريد وتعدُّدها أو اختلاف الأجزاء عن بعضها بما يؤدي إلى منفعة أكيدة من التجزئة، على أن يكون القرار مبرَّراً وخاضعاً للرقابة وفقاً للقوانين المرعية الإجراء.
ب- عند تنفيذ سياسات تنموية للحكومة كتشجيع مشاركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الشراء العام.
2. لا يجوز تجزئة الشراء إلى جزئيات لتطبيق أحكام خاصة بكل جزء منها بغَرَض تخفيض القيمة التقديرية لمشروع الشراء أو بقصد التهرّب من الرقابة أو من تطبيق أحكام هذا القانون أو القوانين والأنظمة الأخرى”.
وكلّما كانت القيمة التقديرية لمشروع الشراء محددة بدقة صعبت التجزئة المصطنعة للتحايل على قانون الشراء العام والهروب من الرقبة.
الخلاصة: يُعتبَر غياب القيمة التقديرية لمشروع الشراء باباً للاحتيال والتهرب من الرقابة، وعلى هيئة الشراء العام وسائر الهيئات الرقابية الانتباه.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق