يُجمع المصرفيون والمعنيّون بالشأن المالي على أن الوضع الاقتصادي والمالي كارثي، نتيجة تعطّل الدورة الاقتصادية بشكل شبه كامل وتقلّص التدفقات المالية إلى البلاد إلى مستويات مقلقة، مما سيؤثر حتماً على إمكانية الصمود خصوصاً أن الاقتصاد الموازي الذي كان يقدّر بحوالى 10 مليارات دولار، تضرّر هو الآخر، ولم تعد تلك الكتلة النقدية بالعملات الأجنبية متوفرة بالنسبة نفسها في السوق.
مع كلّ أزمة تمرّ بها البلاد، تثبت تحويلات المغتربين المالية من الخارج أنها العمود الفقري للاقتصاد والرئة التي تبقيه صامداً على مرّ الكوارث، بدءاً من الأزمة المالية، مروراً بانفجار مرفأ بيروت، فجائحة كورونا، وصولاً إلى الحرب الدائرة والتي خلّفت ولا تزال، أضراراً مالية وبشرية تفوق أضعافاً الخسائر التي تعرّض لها لبنان واقتصاده في السنوات الاخيرة.
مع تهافت المغتربين والمؤسسات غير الحكومية والجمعيات من مختلف الدول على دعم لبنان عند كلّ كارثة يتعرّض لها، ترتفع تلقائياً نسبة التحويلات المالية التي ترد إلى البلاد عبر المصارف وخصوصاً عبر شركات تحويل الأموال رغم ارتفاع كلفتها لتصل الى 11% مقارنة مع معدل عام عالمي عند 6%، إما لمساعدة الأسر ودعمها مالياً مع تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع قدرتها الشرائية أو لتعويض المتضررين والنازحين والأشخاص الذين فقدوا بيوتهم ووظائفهم. وتكون النتيجة ضخّ سيولة نقدية في السوق يعوّل عليها الاقتصاد دائماً للصمود في وجه الأزمات. خلال السنوات الماضية، ارتفع حجم التحويلات المالية للمغتربين إلى لبنان من 6.2 مليارات دولار عام 2020 إلى 6.6 مليارات دولار عام 2021 ، و6.44 مليارات دولار في العام 2022، وصولا إلى 6 مليارات دولار في 2023 وفق تقديرات البنك الدولي الذي أشار إلى أن لبنان احتلّ المركز الأوّل في المنطقة والمرتبة الثالثة عالميّاً من حيث مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحلّي الإجمالي، والتي بلغت 30.7% في العام 2023 مقارنة بـ 35.7% في العام 2022.
فهل سيحافظ العام 2024 على معدلّ التحويلات نفسه أم أن ظروف وتداعيات الحرب ستمنعه من ذلك، وهل سيكون إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي “فاتف”، عاملاً إضافيّاً لتقلّص حجم التحويلات المالية؟
أزمة خلال 3 أشهر
في هذا الإطار، اعتبر الوزير السابق والمصرفيّ رائد خوري ان حجم التحويلات المالية عبر النظام المصرفي لم يشهد تغييراً ملحوظاً لناحية ارتفاعه رغم انه لا توجد بعد احصاءات دقيقة حول هذا الموضوع، مؤكداً في المقابل “بما لا شكّ فيه، أن الاقتصاد النقدي لا يزال مزدهراً وبقوّة لأن الثقة في القطاع المصرفي لم تُستعد بعد. ومن يقوم باستخدام النظام المصرفي لإتمام التحويلات فهو بغرض تلبية احتياجات الأسر اللبنانية وليس للإدخار أو الاستثمار. وبالتالي فإن التحويلات التي ترد إلى لبنان مصدر معظمها شركات تحويل الأموال أو التدفقات النقدية”.
وأشار لـ”نداء الوطن” إلى أن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية فعّل عملية التدقيق بالتحويلات الواردة أكثر فأكثر، وباتت هناك دول تتشدّد أكثر بالتحويلات إلى لبنان مثل تركيا، وهو عامل لن يصبّ في مصلحة زيادة التحويلات عبر النظام المصرفي، خصوصاً أن التحويلات النقدية التي كانت ترد عبر المطار او البرّ لا يمكن إتمامها من خلال النظام المصرفي، لأن أصحاب تلك التحويلات ليسوا عملاء مصرفيين خاضعين لقوانين الامتثال، وبالتالي قد يلجأ هؤلاء إلى شركات تحويل الاموال بدلاً من المصارف، إلا أن الوسائل المتاحة لا تعوّض التدفقات النقدية التي كانت ترد إلى البلاد عبر السياحة أو “الحقائب”.
وفيما رأى أنه لا يمكن تحديد حجم التدفقات النقدية إلى لبنان، رجّح أن تكون تراجعت نتيجة صعوبة تمويل الأحزاب في المرحلة الحالية، معتبراً أن تراجع التدفقات المالية والنقدية الشرعية وغير الشرعية إلى لبنان، من أموال المغتربين وأموال السياحة، سيشكّل أزمة مالية واقتصادية في حال طال أمد الحرب إلى أكثر من 3 أو 4 أشهر، “حيث سيتقلّص حجم احتياطي مصرف لبنان بالعملة الاجنبية وقد يتأثر سعر صرف العملة المحلية، وسنبدأ نشهد إقفال مؤسسات وشركات وتسريح عمال…”.
ختم خوري “نحن صامدون بالحدّ الأدنى. وأيّ تراجع في حجم التدفقات المالية سيدفعنا إلى الهاوية!”.
أما بالنسبة إلى شركات تحويل الأموال، فقد أكدت مصادرها لـ”نداء الوطن” أن شهر أيلول، وهو الشهر الذي بدأت فيه الأحداث الأمنية في لبنان، عادة ما يشهد زيادة في التحويلات المالية من الخارج لتسديد أقساط المدارس والجامعات، إن من قبل المغتربين أو من قبل مؤسسات وجمعيات. وبالتالي لا يمكن التعويل على شهر أيلول لمقارنة زيادة حجم التحويلات التي تشهد في تلك الفترة من كلّ عام ارتفاعاً ملحوظاً. اما بالنسبة لشهر تشرين الأول، وهو الشهر الذي تصاعدت فيه حدّة الضربات العسكرية وتهدمت خلاله آلاف المباني مما تسبّب بنزوح آلاف المواطنين، فقد شهد ارتفاعاً في نسبة التحويلات المالية من الخارج عبر شركات تحويل الأموال بنسبة 20 في المئة وفقاً لمدير عام وزارة الاقتصاد والتجارة محمد أبو حيدر الذي أكد لـ”نداء الوطن” أن تلك الزيادة ناتجة عن الدعم المالي العائلي الذي يرسله أقرباء النازحين في الخارج لمساعدتهم في تلبية احتياجاتهم البسيطة من تسديد كلفة إيجار مسكن جديد، أو تأمين احتياجاتهم الغذائية وغيرها، معتبراً انها تحويلات بغرض تأمين الحاجات الملحّة بوسيلة سريعة.
في المقابل، يؤكد مصدر مصرفي لـ”نداء الوطن” أن البلاد في حالة مأسوية على الصعيد الاقتصادي بسبب اقتصار نشاط الدورة الاقتصادية على المؤسسات الغذائية مثل السوبرماركت ومحطات الوقود. مشيراً الى انه لا يوجد أي مؤشر على الصعيد المصرفي لزيادة التحويلات إلى لبنان، “لا بل أصبحت عملية التحويل متشدّدة بنسبة كبيرة نتيجة إدراج لبنان على اللائحة الرمادية وتوقف عدد من البنوك المراسلة الصغيرة عن التعامل مع كافة مصارف لبنان”. ولفت إلى رفض البنوك المراسلة إتمام عدد كبير من عمليات التحويل وفرض شروط أقسى للامتثال تتعلّق بإبراز الإثباتات الموثقة للحاجة لإتمام التحويلات بالإضافة إلى مصدر الأموال، حتّى في حالة المبالغ الصغيرة. مؤكداً أن عمل المصارف أصبح يقتصر على العمولات وعلى بعض بطاقات الائتمان وعلى التعميمين 158 و166 فقط لا غير!
وشدد المصدر المصرفيّ على عدم إمكانية تعويض التراجع في التدفقات النقدية التي كانت تدخل إلى البلاد من خارج النظام المصرفي، لأن أصحاب تلك الأموال غير قادرين على التحوّل إلى النظام المصرفي أو إلى شركات تحويل الأموال، “علماً أنهم ما زالوا لغاية اليوم يجدون بعض السبل لإدخال تلك الأموال إلى لبنان، في حين أن بعضهم فتح خطوطاً لنقل أمواله نقداً إلى دول أخرى”.
وحول صعوبة الصمود من دون تلك التدفقات النقدية التي كانت تدرّ الدولارات في السوق، أكد المصدر أن هناك حوالى 15 مليار دولار من الأموال النقدية مودعة في المنازل، “إلا أن هدف تلك الاموال هو الادّخار وليس الإنفاق، مما يعني أن تلك الاموال لن تدخل في معظمها ضمن الدورة الاقتصادية. في موازاة ذلك، قُضيَ على الاقتصاد الموازي أو الأسود المقدّر بحوالى 10 مليارات دولار بشكل شبه كامل نتيجة تدمير مؤسسات تابعة أو مموّلة لـ”حزب الله” أو غير شرعية، والتي كانت أموالها تُتداول في السوق من خارج النظام المصرفي، الأمر الذي ستكون له تداعيات كارثية على حجم السيولة النقدية بالعملات الأجنبية في السوق، وسيشكّل ضغوطات على الاستقرار المالي والاقتصادي.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع نداء الوطن